الجديدة …. مدينة في احتضار وساكنة في انتظار
مزاكان نيوز _أبو ملاك (*)
كثيرة هي المقالات والاراء التي نشرت في عدد من المواقع والجرائد الإلكترونية، وجهت من خلالها البوصلة، نحو مدينة فقدت الكثير من البريق واللمعان والجاذبية، في ظل انشغال المجالس المنتخبة المتعاقبة، بالصراعات الخفية والمعلنة والحسابات السياسوية والمصالح الضيقة، مما أفرز أزمة أرخت بضلالها على المدينة التي دخلت في متاهات “الإهمال” الذي ساهم بشكل مقلق في ذبول ملامح وجه مدينة اقترن إسمها خلال سنوات عابرة باسم “دوفيل المغرب ” التي اختفت في صمت، تاركة مدينة استسلمت عنوة لمفردات الرتابة و”العشوائية”و”الهشاشة” و”غياب الجاذبية”، وهو واقع مثير للخجل، يسائل مختلف المسؤولين المحليين الذين تعاقبوا على تحمل مسؤولية تدبير الشــأن المحلي على امتداد السنوات، ونعود اليوم للكشف مجددا عن سوءة “الإهمال” الذي لا زال يحيط بعنق مدينة في احتضار وساكنة في انتظار ..
إهمال متعدد المستويات، من تجلياته، “شوارع كبرى” وصلت إلى درجة لا تطاق من الرتابة والنسيان، خاصة شارعي ”محمد الخامس” و “شارع الحسن الثاني” ، على مستوى ضعف الإنارة العمومية و عشوائية الأغراس المتناثرة واهتراء الطرق و تهالك الأرصفة خاصة بشارع محمد الخامس ، وغياب شروط الجاذبية في جل إن لم نقل كل “المدارات الطرقية” التي تكتسحها الأعشاب والحشائش والنباتات الطفيلية ( مدارات كانت في تصاميم التهيئة عبارة عن نافورات تم تحويلها الى مدارات مملوئة بالأتربة )، اما النافورات الراقصة بوسط المدينة ومدارة سنترا فمياهها راكدة وموسيقها معطلة ، مما يجعل هذه الشوارع فاقدة للحيــــاة مثيرة للاشمئــزاز والكآبة ..
وما يعمق من الأزمة الحضرية التي تزداد تعقيدا، في ظل حضور ظواهر مشينة من قبيل انتشار ظاهرة الباعة المتجولين وتجارة الرصيف (الفراشة) وأصحاب الأكلات الخفيفة، الذين يحتلون نقطا متفرقة في بعض الشوارع الرئيسية (شارع الزرقطوني وساحة الحنصالي نموذجا)، بكل ما يتسبب فيه ذلك، من مساس بمورفولوجية المجال الحضري وإزعاج مستدام للساكنة، دون أن تحرك السلطات المحلية ساكنا، والعربات المجرورة بدواب والكلاب الضالة والحيوانات الأليفة من أغنام وأبقار خاصة الحمير والبغال، ولا يتردد بعضها في الاقتيات من الأعشاب والحشائش المتناثرة على مستوى المدارات الطرقية ..
يضاف إلى ذلك، ظاهرة الأشخاص المتشردين و الحمقى الذين ساقهم قدرهم إلى المدينة، حيث ساروا جزءا لا يتجزأ من “مورفولوجية” المجال الحضري، بعضهم يقتات من قمامات الأزبال والبعض الآخر يتسول المارة،
أما على مستوى الحدائق وأماكن الراحة والترفيه، وباستثناء الحديقة المعروفة وسط الساكنة المحلية ب”بارك سبيني”، تبين المعاينة الميدانية، أن المدينة تفتقر إلى الحدائق العمومية، وحتى ما تواجد منها، فهو يعيش حالة من الإهمال والرتابة (حديقة محمد الخامس نموذجا)، مما يحرم الساكنة المحلية من فضاءات تستجيب لشروط الراحة والاستجمام، وتمتد معالم الهشاشة إلى ظاهرة البيــع بالتجوال التي “استعمرت” بعض الزقاقات بكاملها، خاصة بالسوق الشعبي المعروف لدى الساكنة المحلية ب “لالة زهرة ”، و”علال القاسمي″، حيث تحضر العشوائية والتسيب واحتلال الشارع العام، مما يربك حركية السير والجولان، في غياب تام لأية مراقبة من جانب المصالح المعنية، دون إغفــال بداية زحف بعض الباعة المتجولين “الفراشة” وبائعي الأكلات الخفيفة على نقط مختلفة من ” ساحة مسرح عفيفي ” وشارع “محمد السادس”، مما يدق ناقوس الخطر بقوة، حول مستقبل هذا الشارع الرئيسي ، مما يفرض على مدبري الشأن المحلي اتخاذ ما يلزم من تدابير وإجراءات، قصد استئصال الظاهرة في مهدها قبل استفحالها، لما لذلك من تأثيرات على مستوى رونق وجمالية المدينة.
ولم تتوقف عدوى الإهمال عند الشوارع الكبرى، بل امتدت أيضا إلى مداخل ومخارج المدينة، وهي في حاجة ماسة إلى المزيد من التهيئة والاهتمام لأنها تشكل مرآة عاكسة لوجه المدينة بالنسبة للزوار أو العابرين، خاصة مدخل المدينة من جهة سيدي بوزيد و طريق مراكش حيث لامناص من إعادة الاعتبار لهذه المداخل التي تعيش وضعية مزرية مثيرة للقلق والخجل، وهنا لامناص من الإشارة إلى ظاهرة مقلقة آخذة في التنامي والانتشار، ويتعلق الأمر بظاهرة التسول في صفوف بعض المهاجرين المنحدرين من بلدان إفريقية جنوب الصحراء، حيث يتخذون من الشوارع الرئيسية والمدارات الطرقية المرتبطة بها، أمكنة لممارسة التسول وتوسل سائقي السيارات والمارة على حد ســــواء، مما يعمق أزمة المجال الحضري، دون إغفال الركود الذي يعتري المشهد الرياضي والذي يمكن اختزاله في الوضعية المقلقة التي وصل إليها “ملعب لشهب ”، دون إغفال الخصاص الحاصل على مستوى ملاعب القرب في الكثير من الأحياء والقاعات الرياضية ..
أما بخصوص المشهد التعليمي، فيتبين من خلال واقع الممارسة، أن مجموعة من التلاميذ ينحدرون من أحياء بعيدة، من قبيل “حي المطار ” و”النجد ”و ” السلام “وبعض الأحياء الحديثة المجاورة لهما، وهذا الواقع، يفرض عليهم قطع مسافات طويلة كل يوم، مشيا على الأقدام من مقرات سكناهم إلى مؤسساتهم التعليمية، مما يجعلهم معرضين إلى خطر الطريق، وحتى من يستعمل النقل الحضري (على قلته وهشاسته)، فهو مرغم على التعايش مع مشاكل النقل لقلة الحافلات وتأخراتها وحالة الازدحام التي تكون عليها، وهي ظروف تنعكس سلبا على مستوى العطاء والمردودية، فضلا عن التأخرات والغيابات عن الحصص الدراسية، وقد أصبحت الحاجة ماسة لبناء “ثانوية تأهيلية” تستوعب تلاميذ أحياء المطار و السلام والأحياء الحديثة المجاورة لهما، تفعيلا وتكريسا لمبدأ “تعليم القرب” على أرض الواقع، وإذا كانت الحالة الصحية لمدينة “الجديدة” بهذا الشكل، فيمكن تخيل كيف ستكون وضعية بعض الجماعات والتجمعات السكانية المجاورة لها (…)..
مفردات الرتابة والإهمال، تكاد تكتسح كل المجال الحضري للمدينة، ويكفي القيام بجولات تفقدية راجلة على مستوى شاطئ الجديدة، ليتبين بالواضح أنه لم يسلم بدوره من مظاهر التسيب والعشوائية. سواء فيما يتعلق باكتساح الشواطئ ب “المظلات الشمسية” المعروضة للكراء، وانتشار حراس السيارات كالفطريات، وبعضهم يفرض أثمنة مبالغ فيها، دون إغفال الحالة المزرية التي ال اليها الشاطئ مما جعلها يفقد اللواء الازرق ، وهو ما بات يفرض تبني مقاربة شمولية للنهوض والارتقاء بشواطئ المدينة على المستوى النظافة وجودة الخدمات والأمن والسلامة والترفيه، بما فيها ذلك إعادة الاعتبار للكورنيش الذي نال حصته من الإهمال …إلخ..
مجموعة من السكان المحليين، تراودهم آمال عريضة في أن تسترجع “الجديدة” مجدها الراحل كمدينة فتن بها المقيم العام الفرنسي لبوطي، وهذا المطلب المشروع لايمكن أن يتحقق على أرض الواقع، إلا بتذويب جليد الخلاف والشنآن بين مكونات المجلس الجماعي (الأغلبية والمعارضة) وتجاوز الحسابات “السياسوية” الضيقة واستحضار المصلحة العليا للمدينة وساكنتها، ثــــم نفض غبـــار الرتابة والإهمال المعششة كخيوط العناكب في مختلف مناحي وجهات المدينة . من خلال إعادة النظر في الإنارة العمومية وتبليط الأرصفة المتهالكة وتعبيد الطرق والاهتمام بالأغراس وتهيئة المدارات الطرقية والحدائق العمومية وتعزيز قطاع النظافة، والاهتمام بملاعب القرب وغيرها، والساكنة المحلية ممثلة في النسيج الجمعوي المحلي، لا بد لها أن تشكل “قوة ضاغطة” أمام المجالس المنتخبة، وأن تبلور مشاريع وبرامج تستجيب لحاجياتها وتطلعاتها، وتدافع عنها أمام من يتحملون مسؤولية تدبير الشأن المحلي، في إطار احترام المؤسسات وما تتيحه القوانين ذات الصلة، والساكنة بدورها مطالبة بالتعبئة الجماعية، وإطلاق العنان للمبادرات المواطنة، التي من شأنها تأهيل الأحياء والارتقاء بها خاصة على مستوى النظافة والأغراس.
هكذا إذن، تبدو مدينة “الجديدة” اليوم، مدينة لقبت ذات يوم بلقب “دوفيل المغرب ”، وهو لقب حامل لمفردات “الجمال” و”الخضرة” و”الوجه الحسن” … مفردات استسلمت عنوة لجبروت “الإهمال” و”الرتابة” و”الفوضى” و”التسيب”، محولة وجـــه “مزاكان ” المشرق، إلى وجه “شاحب” فعل فيه الزمن فعلته، فحوله إلى “تجاعيد” تحكي قصة “مدينة غرقت في “عبث” السياسة والمال والإسمنت المسلح .. مدينة لم تتبق من “تاريخها” إلا “الإسم” ومن “مجدها” الراحل، إلا “الأزمة” و”الركود” و”الانحطاط” … فعسى أن تتحرك “المياه الراكدة” وتتحرك معها “السواعد المواطنة” القادرة على إعادة الحياة لمدينة في “احتضار” والأمل لساكنة في “انتظار” ..
وبالقدر ما تمتد جسور الإهمال وتتعمق بؤر الرتابة والعشوائية، بالقدر ما تعقد الآمال على الزيارات الملكية للمدينة، القادرة وحدها دون غيرها، على تحريك مشاعر المسؤولين على تدبير الشأن المحلي، ودفعهم إلى القيام بما يفترض القيام به على امتداد السنة، من أجل الحرص المستدام على نظافة المدينة وتزيين صورتها، وفي هكذا مناسبات رسمية، تتم التعبئة الجماعية ويتم تسخير الطاقات والوسائل واستنفار عمال الإنعاش الوطني، من أجل مطاردة كل أشكال الهشاشة المتناثرة، بإعادة النظر إلى الشوارع الكئيبة والمدارات الحزينة، على مستوى الإنارة العمومية والأغراس والتشجير والنظافة وتكثيف الحملات الأمنية، وهي تحركات “استثنائية” يتحكم فيها هاجس تجميل المدينة وتلميع صورتها، ليس من أجل سواد عيون المدينة وساكنتها، ولكن تحسبا لأي زيارة مرتقبة للملك محمد السادس أما باقي الأحياء خاصة الملحقة بالمجال الحضري ، فلامناص أمامها ســـوى تحمل الحرارة القاسية للحرمان والنسيان، إلى أجل غير مسمى ..
ما قيل عن الجديدة، يكاد ينطبق على جميع المدن المغربية التي تعاني أشكالا مختلفة من الهشاشة واللامبالاة من قبل المسؤولين عن الشأن المحلي من رجال سلطة ومنتخبين، ولا تتم الالتفاتة إلى حالها وأحوالها، إلا بمناسبة الزيارات الملكية، التي تضعهم “تحت الضغط” وتفرض عليهم، التعبئة وتسخير الطاقات والوسائل والإمكانيات من أجل تأهيل الشوارع والمدارات الطرقية والارتقاء بها على مستوى الإنارة العمومية والصباغة والأغراس والتشجير والنظافة، تخوفا من أية غضبة ملكية محتملة، ولما تنتهي الزيارات الملكية، تعود حليمة إلى عادتها القديمة، ويعود معها مسلسل الإهمال والرتابة وعدم الاكتراث، وهذه التصرفات غير المسؤولة والمثيرة للخجل في نفس الآن، لابد من القطع معها، من منطلق أن المسؤوليات تعد “تكليفا” وليس “تشريفا، وهذا “التكليف” يفرض التحلي بما تقتضيه واجبات المواطنة، من تضحية ونكران للذات والتفاني في العمل خدمة للمواطنين وإسهاما في رقي الوطن وانتشاله من مخالب الهشاشة ..
والمسؤول المواطن، ليس من لا يبارح مكتبه المكيف وكرسيه الدافئ، أو يتحرك “تحت الضغط”، هو من يستحضر جسامة المسؤولية الملقاة عليه أمام “الله” وأمام “الوطن” وأمام “من حمله الأمانة”، ويدرك تمام الإدراك، أن “مهمته” أو”مسؤوليته” تتأسس في شموليتها على خدمة الصالح العام بنزاهة ووفاء وإخلاص، هو من يفتح قنوات التواصل والتشارك ويستجيب لحاجيات وانتظارات الساكنة ويرتقي بمستوى معيشتها، ويتعقب الفاسدين والعابثين والمتراخين، ويشجع المبادرات المواطنة القادرة على إضافة لمسة أو بصمة من شأنها التأثير الإيجابي في حياة المواطن، وهي صفات يمكن إدراكها بتطبيق أمثل لمبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، وهو مبدأ يمكن الرهان عليه، لكسب رهانات محاربة الفساد والعبث والريع ..
ومن باب الموضوعية، فلا يمكن تحميل المسؤولية دائما للمسؤولين، بل حتى المواطن، يتحمل جانبا من المسؤولية فيما آلت إليه المدن من إهمال، من خلال تصرفاته غير المواطنة، من عبث وفوضى وإهمال ، ويكفي في هذا الصدد، استحضار ما تعيشه المدن من احتلال للملك العمومي سواء من قبل الباعة المتجولين ومن يمتهن تجارة الرصيف أو من قبل أرباب المقاهي والمطاعم والمحلات التجارية، أو من خلال “احتلال” شوارع بعينها من طرف تجار الخضر والفواكه والأسماك، دون أن تحرك السلطات المعنية ساكنا ..
هذا هو واقع حال الجديدة اليوم، وهي وضعية مشاعة بين عدد من المدن المغربية التي تتقاسم صالون الهشاشة والإهمال من قبل مسؤوليها ومنتخبيها، مدن في “احتضار” وساكنة محلية في “انتظار”، عسى أن ننام ونصحو على “مدن” جميلة ونظيفة، آمنة ومطمئنة، ليس فيها أزبال ولا ركامات أتربة، ولا “فراشة” يحتلون الشوارع عنوة، ولا كلاب ضالة تتسكع بين ظهرانينا، ولا متشردين ولا متسولين ولا قطاع طرق، ولا دواب ولا عربات مجرورة، مدن تنبض بالحياة، فيها عدالة مجالية تحت مظلة سلطة القانون، يتحرك مسؤولوها ومنتخبوها تحت ضغط “المسؤولية ” و”الأمانة” و”حب الوطن، وتتوحد قدراتهم وطاقاتهم من أجل المصلحة العامة، عوض استنزاف الزمن والقدرات في الصراعات السياسوية والهواجس الانتخابوية، مدن “مواطنة” لايمكن بناء صرحها أو الحلم بفضاءاتها، إلا بمواطنين صالحين يحملون “هم الوطن” في الحل والترحال ..
وإذا عدنا مجددا لفتح “ملف الجديدة”، فليس من باب الانتقاد الهدام أو القصف المجاني أو الضرب تحت الحزام أو توجيه رسائل “مشفرة”، ولكن حركتنا الرغبة في أن تستعيد “عاصمة دكالة” رونقها وجمالها، من أجل ساكنتها وزوارها وعابريها ومحبيها .. وهي فرصة سانحة، لتحية نزهاء وأشراف الوطن، الذين يكدون ويجتهدون ويتبرعون ويتميزون ويتألقون ويبادرون ويحترقون كالشموع، من أجل الوطن والإسهام في رقيه وازدهاره .. فنحن نؤمن بثقافة “البناء” ولا “نبخس الناس أشياءها”، لكن في نفس الآن، لن نتردد في “إدانة ” العبث والتهور والإهمال، من أجل “الوطن” ولو كان ذلك بقلم حر، لا تتحكم فيه هواجس أو انتماءات، إلا هواجس وانتماءات “الوطن”.. وما كتبنا من سطور، هو نابع من “قلب” مواطن، يحلم بالعيش في “مدينة مواطنة” .. وهو”حلم” صعب المنال، لكنه غير مستحيل وبالإمكان إدراكه، بالإرادة والإصرار والتضحية والوفاء ونكران الذات،
و “ما نيل المطالب بالتمني * ولكن تؤخذ الدنيا غلابا “..
(*) رئيس جمعية مدينتي
تعليقات 0